23 أغسطس، 2021

عمرو بن العاص، شخصية متعدِّدة الأنحاء، ومحيِّر


            بدأت حياة «عمرو» فى مكة، حيث كانت أمه تعيش فى كنف قريش بين الفقراء، كامرأةٍ من السبايا أو من المعدمين. وكانت تفتح بابها فيغشاها الرجال، ولما ولدته نسبته إلى «العاص بن وائل السهمى» فنشأ فى حضنه وتزوَّج فور بلوغه بابنة عمه «رائطة بنت الحجَّاج بن منبه السهمية» فقضت معه حياتها كلها، وأنجبت له ولده، الذى سماه «عمرو» باسم أبيه «العاص»
         غير أن النبىَّ غيَّره لاحقاً، وأعطاه الاسم الذى اشتُهر به: عبدالله بن عمرو بن العاص.. وكان الفارق فى السن بين «عمرو» وابنه «عبدالله» فى حدود الاثنتى عشرة سنة فقط!
          وكان نبوغ «عمرو» فى مكة، مبكراً، فقد روت المصادر أنه كان صبياً يافعاً حين واجه بكلماته البليغة، رجالَ قريش الذين انتقدوا أباه «العاص بن وائل»، لاعتدائه على الحقوق المالية لواحدٍ من تجار اليمن، وهى الواقعة التى انتهت بتأسيس (حزب الفضول) الذى كان يقوم، من قبل الإسلام، بنُصرة المظلومين.
والغمَّازون اللمَّازون الكارهون لعمرو بن العاص، كثيراً ما يشيرون إلى أمه ظناً منهم أن ذلك يحطُّ من شأنه، لكنه فى واقع الأمر كان قد تجاوز هذه المسألة، منذ فترة مبكرة من حياته. بل كان لا يجد غضاضة فى الإشارة إليها، وهو ما يدل على ثقته الوفيرة بذاته . فعندما مات أخوه «هشام» بكاه بحرقة، وهو آنذاك أميرٌ على جيش المسلمين، فلامه على ذلك كبار قُوَّاده، فقال لهم ما معناه: كيف لا أبكى عليه، وقد كان أفضل منى، وأمه أفضل من أمى.
وفى واقعةٍ تالية، أيامَ كان أميراً لمصر، تراهن بعض الخبثاء مع رجلٍ على مبلغٍ من المال، إذا استطاع أن يسأل «عمرو» يوم الجمعة وهو على المنبر، عن أمِّه! فسأله الرجل، فقال له عمرو بن العاص ببساطةٍ وثقة ما فحواه: كانت امرأةً من فقراء قريش، اسمها كذا.. فاذهبْ وخُذْ من أصحابك المال الذى جعلوه لك.
ويتصل بما سبق، روايات أخرى لا تتعلق بقدرة «عمرو بن العاص» على تجاوز الوقائع القديمة التى لم يكن له يد فيها، فحسب، وإنما تدل أيضاً على قدرته الفائقة على ضبط النفس والثقة المفرطة بذاته. فقد كان أمير الجيش يوم نهر بعض جنوده ليقوموا إلى أعمالهم ويتركوا الطعام، فردَّ عليه أحدهم بقوله «مهلاً» فإنما نحن لحم وعظم، فقال له عمرو بن العاص «بل أنت كلب» فقال الجندى: فأنت أمير الكلاب.. فضحك ومضى عنهم!
ومعروفٌ عن عمرو بن العاص، أنه ساعد معاوية بن أبى سفيان فى نزاعه مع الإمام علىّ بن أبى طالب، وحارب فى صفِّه وجعل له الأمر بالخدعة الشهيرة (التحكيم)، لكنه حين دخل على «معاوية» المجلس، فوجده يحكى من الوقائع ما يُعلى به من شأنه، ويحط من شأن الإمام علىِّ.. صاح فيه عمرو بن العاص: «يا معاوية أحرقت قلبى بقصصك، أترانا خالفنا عليّاً لفضلٍ منَّا عليه، لا والله، إنما هى الدنيا نتكالب عليها، فإما أن تقطع لى من دنياك، أو أنابذنَّك».. فأعطاه مصر!
ومع أن «عمرو» هو القائل، حين انتقدوه لأنه يركب بغلةً كبيرة السن وبائسة، وهو الأمير: لا أملُّ دابتى ما حملتنى، ولا أملُّ زوجتى ما أحسنتْ عشرتى، ولا أملُّ ثوبى ما وسعنى، فإن الملل من سيئ الأخلاق.
فإن «عمرو» ذاته هو القائل حين اجتمع بنو أمية عند كبيرهم «معاوية» ليعاقبوه على تفضيل عمرو بن العاص، فصاح فيهم: أما والله، ما أنا بالوانى ولا الفانى، وإنما أنا الحية الصماء التى لا يسلم سليمها ولا ينام كليمها، وأنا الذى إذا همزتُ كسرتُ، وإذا كويت أنضجت، فمن شاء فليشاور ومَنْ شاء فليؤامر.. وقد علمتم أننى أحسن بلاءً، وأعظم غناءً.
إذن، نحن بإزاء شخصية متعدِّدة الأنحاء، ومحيِّرة، لكن فضلها ثابتٌ بوقائع التاريخ وبصحيح الشهادات النبوية فى حق عمرو بن العاص.. فمن الوقائع الثابتة أنه قاد جيش المسلمين فى حياة النبى، عقب إسلامه، وكان تحت إمرته كبار الصحابة والشيخان أبوبكر وعمر، وقاد الجيوش التى فتحت بلاد الشام وشمال الجزيرة وفلسطين، فأظهر من الشجاعة والحكمة والمهارة ما يثير الإعجاب.
وحين صال القائد العسكرى البيزنطى (الرومى) المسمَّى أرطيون، وتكتبه بعض المصادر العربية: أرطبون، وأعجز جيش المسلمين، شكا الناسُ أمرَه إلى الخليفة عمر بن الخطاب، فقال: نضرب أرطيون الروم بأرطيون العرب.. واستدعى له «عمرو بن العاص» فذهب إليه على رأس جيش، وهزمه، واضطره للفرار بحفنة من جنوده إلى مصر..
ومن الشهادات النبوية فى حق عمرو بن العاص، الحديث: ابنا العاص مؤمنان، عمرو وهشام (رواه الإمام أحمد والحاكم وابن سعد وابن عساكر) والحديث: أبوعبد الله عمرو بن العاص من صالحى قريش، نِعْمَ أهل البيت أبو عبدالله وأم عبدالله وعبدالله (أخرجه أحمد والترمذى) والحديث: أسلم الناسُ وآمن عمرو بن العاص (قال الذهبى: حديثٌ حَسَنُ الإسناد)