لقد عبر طه حسين عن مشاعره حين حل بالأراضي المقدسة
فيقول في أول ابريل1955: أول ما شعرت به ومازلت أشعر به إلي الآن هو الذي يجده الغريب حين يؤوب بعد غيبة طويلة جدا إلي موطن عقله وقلبه وروحه.. ويقول لمرافقه الشيخ أمين الخولي وهما يغادران جدة قاصدين البيت الحرام بمكة المكرمة أن يوقف الركب عند الحديبية, وعندها ترجل طه قبض من تراب الحديبية قبضة فشمها ثم تمتم ودموعه تنساب قائلا: وإني لأشم رائحة النبي محمد صلوات اللـه عليه في هذا التراب الطاهر, وتوجها إلي الكعبة فاستلم الحجر وقبله باكيا, وظل يقبله ويبكي حتي وقفت مواكب الحجيج انتظارا لأن يغادر الأديب الكبير المكفوف مكانه, ولكنه أطال البكاء والتنهيد والتقبيل, ونسي نفسه فتركوه مكانه, وأجهشوا معه في البكاء, واستمر يطوف ويسعي في خشوع ضارع وبكاء خفي حتي أتم عمرته, وقد أخذ منه الإرهاق النفسي أكثر من البدني كل مأخذ.. ويفضي بعدها طه للشاعر كامل الشناوي عن تلك اللحظات الروحية قائلا: لقد سبق أن عشت بفكري وقلبي في هذه الأماكن المقدسة زهاء عشرين عاما, منذ بدأت أكتب عن( هامش السيرة).. عشت بعقلي الباطن وعقلي الواعي, استعدت كل ذكرياتي القديمة, ومنها ما هو من صميم التاريخ, ومنها ما هو من صميم العقيدة, وكانت الذكريات تختلط بواقعي فتبدو حقائق أحيانا, ورموزا حينا.. كنت دائما في كامل وعيي, وقد أخذتني الرهبة والخشية والخشوع كل مأخذ عندما كنت وحدي, وقد كنت في تلك المرة الواحدة مع الناس ومع نفسي في وقت واحد, وقد حاولت جهدي أن أتخلص من المطوفين, ولكن محاولاتي ذهبت هباء ووجدتني بين أيديهم أردد بلا وعي ما يقولونه, ووجدتني في الوقت نفسه وحدي وإن كنت في صحبتهم.. كنت شخصية واعية بلا كـلام, وشخصية متكلمة بلا وعي.. كانت الشخصية الناطقة بلا وعي تردد كـلام المطوفين, والشخصية الواعية بلا كـلام تناجي ربها في صدق وصمت وخشوع.. قلت له سبحانه: اللهم لك الحمد. أنت نور السماوات والأرض, ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض, ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن, أنت الحق, ووعدك الحق, والجنة حق والنار حق والنبيون حق والساعة حق.. اللهم لك أسلمت, وبك آمنت وعليك توكلت, وإليك أنبت, وبك خاصمت, وإليك حاكمت.. فاغفرلي ما قدمت وأخرت, وما أسررت وأعلنت, أنت إلهي, لا إله إلا أنت.. وهذا الدعاء أحفظه منذ زمن بعيد, وهو من أصح ما روي من الحديث عن النبي صلي اللـه عليه وسلم ودائما أناجي ربي به.. ويسأله كامل الشناوي فيما إذا كان قد خاطب بهذا الدعاء ربه علنا؟ أجاب العميد: أنا إذا ما خاطبت ربي ناجيته, وإن كنت قد أذعته علنا عام1951 في فلورنسا باللغة الفرنسية في مؤتمر الحضارة المسيحية, وما أن انتهيت من إلقائه حتي دوت قاعة المؤتمر بتصفيق شديد, وجاءتني سيدة مسيحية تقول لي وهي تبكي:( هذه دموعي أذرفها بين يديك من فرط إعجابي بالإسلام الذي أحبه كثيرا.. فقلت لها: لا داعي للدموع فإعجابك يكفي).. وتروي سوزان طه حسين في مذكراتها معك قائلة لزوجها: أفكر بهذا التوافق الخفي الذي وحدنا دوما في احترام كل منا لدين الآخر. لقد دهش البعض من ذلك, في حين فهم البعض الآخر أن بوسعي أن أردد صلاتي علي حين تستمع أنت إلي القرآن الكريم في الغرفة المجاورة, واليوم بعد وفاتك أفتح الراديو لأستمع إلي الآيات القرآنية ليتخلل القرآن أعماق نفسي.. لقد كنت غالبا ما تحدثني عن القرآن, وتردد لي البسملة التي تحبها بوجه خاص وتبدأ بها أي عمل تقوم به.. كنت تردد في كثير من الأحيان أننا لا نكذب علي اللـه وويل للمكذبين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق